فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الآية بحسب السياق تنفى وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه فقد سلم من قتلهم وصلبهم، وظاهر الآية أيضا ان الذي ادعى إصابة القتل والصلب إياه، وهو عيسى عليه السلام بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، وحفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه وروحه لا انه توفى ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فان الاضراب الواقع في وله {بل رفعه الله إليه} لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الانف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به وأنجاه من أيديهم سواء كان توفى عند ذلك بالموت حتف الانف أو لم يتوف حتف الانف ولا قتلا وصلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
وعند هذا المحقق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادى مشكوكا في صحته.
وليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح ويرفعه إليه ويحفظه، أو يحفظ لله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته وحياته بين قومه، وما يحكيه من معجزات إبراهيم وموسى وصالح وغيرهم، فكل ذلك يجرى مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة وتعطل قانون العلية العام، وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز وخرق العادة.
وبعد ذلك كله فالاية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد. اهـ.

.قال في الأمثل:

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه السلام كانوا- هم أنفسهم- في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: {وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن...}.
وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح عليه السلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنًا لله، ورفض البعض الآخر- كاليهود- كونه نبّيًا، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.
وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح عليه السلام حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.
أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح عليه السلام، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخصغيره...؟!
ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدًا، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: {وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا}.
اُسطورة الصّليب؟
يؤكّد القرآن الكريم في الآية المارة الذكر على أنّ المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، بل اشبته الأمر على اليهود فظنوا أنّهم صلبوه، وهم لم يقتلوه أبدًا!
أمّا الأناجيل الأربعة الموجودة اليوم في متناول أيدينا فهي كلها تقول بأنّ المسيح عليه السلام قد صلب وقتل على هذه الصورة، وقد جاء هذا القول في الفصول الأخيرة من هذه الأناجيل الأربعة «متى- لوقا- مرقس- يوحنا» وبصورة تفصيلية.
والمسيحيون اليوم يعتقدون بهذا الأمر بصورة عامّة، ومسألة الصلب أو قتل المسيح عليه السلام تعتبر اليوم أحد أهم المسائل الأساسية للديانة المسيحية، ونحن نعلم أنّ المسيحيين اليوم لا يعتبرون المسيح عليه السلام مجرّد نبي ارسل لهداية وإرشاد البشرية، بل يعتقدون بأنّه ابن الله من أركان الثالوث المقدس لديهم، ويزعمون بأنّ هدف مجيء المسيح إِلى هذا العالم ليكون قربانًا يفتدي بنفسه مقابل الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر.
فيقولون: إِنّه جاء ليضحي بنفسه من أجل ذنوبهم وخطاياهم، وقد صلب وقتل ليغسل بدمه ذنوب البشر، ولينقذ البشرية من العقاب، ولذلك فهم يعتقدون بأنّ طريق الخلاص والنجاة من العذاب والعقاب هو الإِيمان بهذا الموضوع.
ومن هذا المنطلق فهم- أحيانًا- يدعون المسيحية بدين الإِنقاذ أو دين الفداء ويسمّون المسيح عليه السلام بالمنقذ.
أو المخلص.
أو الفادي.
واعتمادهم المفرط على الصليب واتخاذه شعارًا لأنفسهم إِنّما يرتكز على قضية القتل والصلب هذه.
كانت تلك نبذة عن عقيدة المسيحيين حول مصير المسيح عليه السلام.
أمّا المسلمون فلا يشك أحدهم ببطلان وزيف هذه العقيدة، والسبب هو أنّ المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كان نبيًّا كسائر أنبياء الله أوّلا ولم يكن هو الله ولا ابن الله، لأن الله واحد أحد فرد صمد لا شبيه ولا مثيل ولا زوج له ولا ولد.
وثانيًا:
إِنّ مسألة الفداء والتضحية من أجل خطايا الآخرين، تعتبر مسألة بعيدة عن المنطق كل البعد، فكل إِنسان يؤاخذ بجريرته وعمله، وإِنّ طريق النجاة والخلاص يكون في الإِيمان والعمل الصالح فقط.
وثالثًا:
إِنّ عقيدة الفداء من أجل الخطايا تعتبر خير مشجع على الفساد وممارسة الذنوب، وتؤدي بالبشرية إِلى التلوث والهلاك.
وحين تلاحظ أن القرآن يؤكّد على قضية عدم صلب المسيح عليه السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدّة، لمنع المسيحيين من الإِيغال في هذا الإِعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إِنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظلالصليب.
رابعًا:
هناك قرائن موجودة تثبت وهن وضعف قضية الإِعتقاد بصلب المسيح عليه السلام هي:
1- المعروف أنّ الأناجيل الأربعة المتداولة في الوقت الحاضر، والتي تشهد بصلب المسيح عليه السلام- كانت قد دوّنت بعده بسنين طويلة، وقد دوّنها حواريوه أو التالون من أنصاره عليه السلام- وهذه حقيقة يعترف بها حتى المؤرخون المسيحيون.
كما نعرف أيضًا أنّ حواري المسيح عليه السلام قد هربوا حين هجم الأعداء عليه، والأناجيل نفسها تشهد بهذا الأمر وعلى هذا الأساس فإِنّ هؤلاء الحواريين قد تلقفوا مسألة صلب عيسى المسيح عليه السلام من أفواه الناس الآخرين، ولم يكونوا حاضرين اثناء تنفيذ عملية الصلب، وقد أدت التطورات التي حصلت آنذاك إِلى تهيئة الأجواء المساعدة للإِشتباه بشخص آخر وصلبه بدل المسيح عليه السلام، وسنوضح هذا الأمر فيما يلي من حديثنا.
2- إِنّ العامل الآخر الذي يجعل من الإِشتباه بشخص آخر بدل المسيح عليه السلام يأمرًا محتم هو أنّ المجموعة التي كلّفت بالقبض على عيسى المسيح عليه السلام والتي ذهبت إِلى بستان جستيماني هذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد الجيش الرومي الذين كانوا منهمكين في أُمور عسكرية، فهم لم يكونوا يعرفون اليهود ولغتهم وتقاليدهم، كما لم يميزوا بين حواري المسيح عليه السلام وبين المسيح نفسه.
3- تذكر الأناجيل أن الهجوم على مقر عيسى المسيح عليه السلام قد تمّ ليلا، وبديهي أنّ ظلام الليل يعتبر خير ستار للشخص المطلوب ليتخفى به ويهرب، وليقع شخص آخر في أيدي المهاجمين.
4- يستنتج من نصوص جميع الأناجيل أنّ المقبوض عليه قد اختار الصمت أمام بيلاطيس.
الحاكم الرومي لبيت المقدس- آنذاك- ولم يتفوه إِلاّ بالقليل دفاعًا عن نفسه ويستبعد كثيرًا أن يقع عيسى المسيح عليه السلام في خطر كهذا ولا يدافع عن نفسه بما يستحقه الدفاع عن النفس، وهو المعروف بالفصاحة والبلاغة والشجاعة والشهامة.
ألا يحتمل في هذا المجال أن يكون شخص آخر- كيهوذا الأسخربوطي.
الذي خان ووشى بعيسى المسيح عليه السلام وكان يشبهه كثيرًا- قد وقع هو بدل المسيح في الأسر وأنّه لهول الموقف قد استولى عليه الخوف والرعب، فعجز عن الدفاع عن نفسه أو التحدث أمام الجلادين بشيء.
نقرأ في الأناجيل أنّ يهوذا الأسخربوطي لم يظهر بعد حادثة الصّلب أبدًا، وأنّه- كما تقول هذه الأناجيل- قد قتل نفسه وانتحر.
5- لقد بيّنا أنّ حواري المسيح عليه السلام- وكما ذكرت الأناجيل- قد هربوا حين أحسوا بالخطر يحدق بهم، كما هرب واختفى الأنصار الآخرون، وأخذوا يراقبون الأوضاع عن بعد، بحيث أصبح الشخص المقبوض عليه وحيدًا بين الجنود الرومان، ولم يكن أي من أصحابه قريبًا منه، ولذلك لا يستبعد ولا يبدو غريبًا أن يقع خطأ أو سهو في تشخيص هوية الشخص المقبوض عليه.
6- ونقرأ في الأناجيل- أيضًا- أنّ الشخص المصلوب قد اشتكى من ربه (وليس لربّه) لأنّه- بحسب قوله- قد جفاه وتركه بأيدي الأعداء ليقتلوه!
فلو صدقنا مقولة أنّ المسيح جاء لهذه الدنيا ليصلب ولينقذ بصلبه البشرية من عواقب خطاياهم وآثامهم، فلا يليق لمن يحمل هدفًا ساميًا كهذا الهدف أن يصدر منه هذا الكلام، وهذا دليل على أن الشخص المصلوب لم يكن المسيح نفسه، بل كان إِنسانًا ضعيفًا وجبانًا، وعاجزًا، ومثل هذا الإِنسان يمكن أن يصدر منه كلام كالذي سبق، لا يمكن أن يكون هذا الإِنسان هو المسيح عليه السلام.
7- لقد نفت بعض الأناجيل الموجودة مثل إنجيل برنابا.
قضية صلب المسيح عليه السلام: «وهذا الإِنجيل هو غير الأناجيل الأربعة التي يقبلها المسيحيون» كما أنّ بعضًا من الطوائف المسيحية أبدت شكوكها حول قضية الصلب وقد ذهب بعض الباحثين إِلى أبعد من هذا، فادعوا بأن التاريخ قد ذكر شخصين باسم عيسى أحدهما عيسى المصلوب والآخر هو عيسى غير المصلوب وبينهما فاصل زمني يقدر بخمسائة عام.
كانت تلك مجموعة من القرائن المؤيدة لقول القرآن الكريم في قضية الشبه الحاصل في قتل أو صلب المسيح عليه السلام. اهـ.

.قال سيد قطب:

لقد كان هذا القرآن ينشئ أمة جديدة. ينشئها من المجموعات المسلمة التي التقطها الإسلام من سفوح الجاهلية التي كانت تهيم فيها؛ ليأخذ بيدها في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة؛ وليسلمها- بعد أن تكمل نشأتها- قيادة البشرية؛ ويحدد لها دورها الضخم في هذه القيادة.
ومن بين عوامل البناء تطهير ضمائر هذه الجماعة؛ وتطهير جو المجتمع الذي تعيش فيه؛ ورفع المستوى الخلقي والنفسي الذي تستوي عليه.
وحينما بلغت تلك الجماعة هذا المستوى؛ تفوقت في أخلاقها الفردية والاجتماعية؛ بقدر تفوقها في تصورها الاعتقادي؛ على سائر أهل الأرض.. وعندئذ صنع الله بها في الأرض ما قدر أن يصنعه؛ وأقامها حارسة لدينه ومنهجه؛ وقائدة للبشرية الضالة إلى النور والهدى؛ وأمينة على قيادة البشرية وإرشادها.